مقالة

رؤية تخطيطية للمدن الكبرى في السعودية

تعاني المدن الكبرى في المملكة، الرياض - جدة - منطقة الدمام الحضرية بالدرجة الأولى، ارتفاعا متناميا للسكان وما يستتبع ذلك من إشكالات تخطيطية واجتماعية وبيئية، منها على سبيل المثال: أزمات مرورية آخذة في التفاقم، وتكاثر لظاهرة الأحياء العشوائية غير المخططة وما يستتبعها من ظواهر اجتماعية وأمنية سلبية. هذا فضلاً عن معدلات التلوث البيئي المتزايدة. وهذه الظواهر ناتجة بالدرجة الأولى من الضغط السكاني المتزايد على مرافق البنية التحتية، بكل أنواعها في هذه المدن. وعموماً فإن النمو السكاني المذكور نابع بدوره، من مصدرين: النمو (الطبيعي) الداخلي (الفرق بين المواليد والوفيات)، والهجرة (داخلية وخارجية). وفي مقابل كل ذلك تبذل جهود تخطيطية وممارسات مؤسسية مختلفة للتعامل مع المشكلات المذكورة. #2# هناك سعي نحو إعادة تخطيط بعض الأحياء العشوائية عبر مشاريع مشتركة مع القطاع الخاص، كما هو الحال في مدينة جدة. كما يتم التعامل مع الأزمات المرورية عبر إنشاء الجسور والأنفاق وتوسيع الشوارع وضبط الحركة المرورية عبر مزيد من النظم (ساهر) والتنظيم الإداري ... إلخ. على أن كل ما ذكر لا يعدو أن يكون إلا حلولا مؤقتة بينما المطلوب العمل على إيجاد حلول جذرية للظواهر المذكورة عبر تحديد أسبابها الرئيسة أولاً. وهذا الأمر لن يتحقق إلا بإعادة النظر في الجهود التخطيطية الحضرية التي تقوم بها الجهات ذات الصلة، فهي رؤية أسيرة لحدود المدينة، وذلك على الرغم من وجود مخططات إقليمية أرحب للمدن ولكن هذه المخططات ظلت حبيسة الأدراج وما يتم في الغالب هو جهد تخطيطي ينطلق من مفهوم أن المدينة السعودية الكبيرة هي مساحة جغرافية يحددها نطاقها الحضري الرئيس. بينما كان من المفترض أن تفعل المخططات الإقليمية التي يمكن من خلالها النظر في المشكلات الحضرية، ومن ثم التعامل معها، من خارج النطاق الحضري وليس من داخله. وهذا الأمر يتأتى بالنظر للمدينة الكبيرة تخطيطيا من خلال المساحة الجغرافية العامة والتي تشملها كمركز رئيس لهذه المساحة، وما يحيط بها من ضواح وقرى وبلدات ومدن صغيرة، وهي المساحة التي يُطلق عليها عادة مصطلح "إقليم المدينة" هذا مع ملاحظة أنه في حالة المملكة بخاصة ينبغي شمول أي مخطط في هذا الشأن لأبعد من الجانب العمراني. الرؤية التخطيطية المطروحة بداية هنالك حاجة لتقليص تيارات الهجرة، خاصة الداخلية، المتجهة باستمرار نحو المدن الكبرى في المملكة. وهذا الشرط لا يمكن تحقيقه بمجرد الأخذ بنمط التخطيط المتعارف عليه لأقاليم المدن، والذي يركز عادة على الجوانب العمرانية وما يتصل بها من خدمات. فهذا النسق التخطيطي قد يؤدي في نهاية الأمر إلى تطوير ما يسمى "بمدن النوم" حول المدينة المركز للإقليم المعني، كما هو حاصل في التجربة الأوروبية، حيث تظل فرص العمل مركزة لحد بعيد في المدن الكبيرة. وعلى الرغم من أنه قد يمكن المجادلة بأن نشوء مدن النوم هذه إنما يؤدي لتقليل الضغط السكاني على المرافق السكنية، وما يتبعها من مرافق خدمية، إلا أن المشكلات الأخرى، خاصة مشكلات المرور والمواصلات، فضلا عن أن مرافق الخدمات تظل كما هي. الأعداد المتدفقة يومياً لهذه المدن للالتحاق بمراكز العمل المختلفة، تضيف على مرافق المدينة عبئاً فوق عبء سكان المدينة. ومن ثم فإن هنالك حاجة ماسة لتطوير إطار تخطيطي أكثر شمولية لأقاليم المدن الكبرى بشكل خاص. حيث يتضمن هذا الإطار إلى جانب التخطيط العمراني، جانباً ذا أبعاد اقتصادية. والمطروح هنا يتمثل في أمرين اثنين، أولهما ربط تخطيط أقاليم المدن بالاستراتيجية العمرانية الوطنية في المملكة، والتي طورتها وزارة الشؤون البلدية والقروية بالتعاون مع البنك الدولي، بحيث يتم التركيز على مراكز النمو، وبخاصة المراكز المحلية، والموجودة في الإطار المكاني لأقاليم المدن الكبرى. أما الأمر الثاني فيتمثل في تزويد إقليم المدينة بمفهوم الصناعات الرئيسة التابعة، آخذا عن نظرية قطب النمو. وفي ما يلي توضيح لمفاصل الرؤية التخطيطية المطروحة عبر ثلاثة محاور رئيسة: أ- المحور العمراني: يستوجب هذا المحور وجود تخطيط عمراني يشمل جميع المراكز السكانية في إقليم المدينة (المدينة المركزية الكبيرة – الضواحي – المدن الصغيرة – البلدان – التجمعات القروية)، بحيث يراعي عدم التركيز فقط على المدينة المركز وما يحيط بها مباشرة من ضواح. كما يجب أن يشتمل التخطيط على إيجاد علاقات وظيفية بين عناصر الإقليم. ب- المحور الخدماتي: يشمل هذا المحور توفير الخدمات المختلفة لمختلف مستويات فئات المراكز السكنية السابق ذكرها. هذا مع ضرورة توفير الخدمات الأكثر تخصصا، كالمستشفيات الإقليمية في نقاط وسطية تقع بين التجمعات السكانية الصغيرة – الصغرى (القرى - البلدات)، وذلك لتلافي الأمر الواقع الحالي، والمتمثل في وجود هذه الخدمات في المدن الكبيرة فقط مع الاكتفاء بتوفير خدمات أولية صحية وتعليمية ... إلخ، في القرى والبلدات الصغيرة، وهو الأمر الذي يعد من أحد العناصر الرئيسة الدافعة للهجرة الداخلية للمدن الكبرى. ج ـ المحور الاقتصادي: إن توفير بيئة سكنية وخدمية ملائمة للتجمعات السكنية الحضرية الصغيرة وتلك الريفية ليس وحده بأمر كاف لاستبقاء السكان وتقليص حجم الهجرة من هذه التجمعات نحو المدن الكبيرة بخاصة، فهناك احتياج من قبل الأفراد إلى توفير فرص عمل تتيح لهم الاستقرار في مواقعهم الحالية، وذلك في حال تمتعها بالحد المطلوب من الخدمات، فمواقع سوق العمل في المملكة تشهد تركزا عاليا جدا لفرص العمل في المدن الكبيرة، بالدرجة الأولى، ولتوفير مصادر موفرة لفرص العمل في المواقع المذكورة فإنه يقترح ربطها بمدن المركز، في أقاليم المدن الكبيرة اقتصاديا عبر آلية الصناعات الرئيسة، التابعة/ حيث يتم إنشاء صناعات ثانوية تعتمد في عملياتها التصنيعية على مواد شبه مصنعة آتية من الصناعات الرئيسة القائمة في المدن الكبيرة. فهذا الأمر من شأنه خلق فرص عمل ليس فقط في المجال الصناعي، بل أيضا في مجالات الخدمات، سواء تلك التي ترتبط مباشرة بالصناعات أو تلك التي تسد الاحتياجات للخدمات لأولئك الحاصلين على فرص العمل الصناعية وعائلاتهم. على أن تطبيق هذه الآلية يعوقه من قلة إلى انعدام إقبال القطاع الخاص على الاستثمار خارج المدن الصغيرة والكبرى بخاصة، كما هو حاصل مع تجربة مدينة ينبع الصناعية. وبناء على ما سبق فإن المطروح هنا هو العمل على تطوير شرائح لرجال الأعمال المحليين في المدن الصغيرة المحيطة بالمدن والمراكز وذلك من خلال إنشاء حاضنات أعمال هناك مع ربط الحوافز والتسهيلات التي تمنح لرجال الأعمال المأمول ظهورهم عبر هذه الحاضنات بالاستثمار في مواقعهم الحالية وفي المجالات الصناعية المحددة تخطيطيا، هذا وينبغي بداية توجه الجهود المذكورة نحو مراكز النمو المحلية المحيطة بمدن المراكز داخل أقاليم المدن الكبيرة، فهذا التوجه من شأنه ربط تخطيط أقاليم المدن بالتوجه الاستراتيجي ـ التخطيطي (الاستراتيجية العمرانية الوطنية) العامة للمملكة، ما ينعكس كما هو مأمول، في نجاح أكبر من ناحية الوتيرة والحجم على المستويين الجزئي (أقاليم المدن) والكلي (المساحة الجغرافية العامة للبلاد). وأخيرا فإنه يتصور أن تطبيق المقترحات المذكورة سينتج حدوث انسياب مكاني للنمو من المدن الكبيرة ـ الكبرى لما يجاورها من تجمعات سكانية أصغر، وما يستتبع ذلك من آثار عدة ليس أقلها تخفيض أحجام تيارات الهجرة الداخلية للمدن الكبيرة عامة، وما يعكسه هذا من ارتفاع قدرة الجهات الإدارية لهذه المدن على التعامل التخطيطي واليومي مع قضايا ومشكلات هذه المدن. أستاذ جغرافية التنمية المشارك جامعة الملك عبد العزيز عضو مجلس إدارة الجمعية الجغرافية السعودية.

المصدر: http://www.aleqt.com/2013/07/28/article_773669.html