مدخل نظرية التوطن الاقتصادي العامة
وفقاً لما سبق فإن الجغرافيا الاقتصادية هي تمثل حقل معرفي واسع لحد كبير وذلك بمعنى أنها تفحص مدى واسع من المتغيرات. وهذا الاتساع إنما يتشاركه مع هذا العلم علم الاقتصاد وعموم العلوم الاجتماعية. ومثلها مثل علم الاقتصاد فإن الجغرافيا الاقتصادية لهي موحده كهيكل من المعرفة والمعلومات بحيث لا يمكن لحد كبير تعريفها بمواضيع المواد التي تدرسها ولكن من خلال أسس أو نظريات متشابكة وهي نظريات مستمرة في التطور. وفي حالة الجغرافيا الاقتصادية فإن هذه الأسس والنظريات هي تلك الخاصة "بموقع الأنشطة الاقتصادية" والمعروفة رسمياً وجمعياً من خلال مصطلح "نظرية التوطن location theory".
تسعى نظرية التوطن لشرح العوامل العالمية والأساسية التي تقرر مواقع كل أنواع النشاط الاقتصادي وتؤثر عليها. وشأنها شأن كل هياكل النظريات، فأن نظرية التوطن تحاول أن تعطي تفسيرات عامة ولا يمكن تطبيقها بشكل تام على كل القرارات التوطنية. Locational decisions. إن كل النظريات مؤسسة على افتراضات وعندما لا تنفق الافتراضات مع الواقع، فإن ذلك لا يعود لأن النظرية خاطئة بالضرورة، ولكنها لا تنطبق بشكل جيد في وضع محدد بذاته. بالإضافة إلى ذلك فإن هنالك سمات مختلفة لنظرية التوطن هي في مراحل مختلفة من التطوير وفي مستويات مختلفة من عملية التحقق والتثبت. ومن ثم فإن نظرية التوطن تتعرض لحالة مستمرة من التحليل الاستدلالي والاستقرائي. هذا ونجد أن عديد من مناطق نظرية التوطن إنما تم جزئيا، فحصها، بينما مناطق أخرى قد تم تبيانها فقط بشكل غير تام. ومن هيكل هذه النظرية ظهر عديد من الفرضيات والتي تحتاج لأن يتم فحصها وذلك اتصالاً بصناعات تحويلية، قطاعات زراعية، أنظمة مواصلات محددة. كما ينطبق هذا الأمر، وبشكل متزايد على المواقع والارتباطات المكانية للبحوث والإدارة والوظائف الإدارية (القطاع الرابع).
وعموماً فإن نظرية التوطن توفر إطار مفاهيمي يساعدنا على فهم عوامل محددة وفردية للمظهر الجغرافي الاقتصادي العام landscape Economic.
وبرسم شكل بياني مبسط يظهر كيفية تطور وتعدل نظرية التوطن، يمكن لنا شرح هذه النظرية. وهنا ينبغي علينا البدء من الأساس عند مستوى الحقائق الجغرافية أو البيانات الجغرافية. ويتم هنا استخدام هذا الاجراء للتأكيد على الفصل بين البيانات الجغرافية والأنواع الأخرى من البيانات وبشكل مبسط فإنه إذا كان هنالك قطعة من المعلومات جغرافية فإنه ينبغي تلازمها مع مكان أو موقع. فمثلاً فإن عشرون طن من القمح لا تعد ذات معنى جغرافياً إلا إذا كانت تشير إلى مكان انتاج هذه الاطنان أو مكان استهلاكها أو أماكن يتم الشحن إليها، وهذه البيانات ينبغي التعبير عنها خرائطياً. ومن ثم فإنه بالإضافة لقيمة أو حجم البيانات فإنه ينبغي أن يكون هنالك نوعاً من نظام إحداثيات توطني يصف المكان أو الأماكن التي تشير إليها البيانات، وذلك مثل نظام خطوط الطول والعرض المعروف، وعليه فإن البيانات الجغرافية يمكن أن تكون غير محددة بدقة بقدر كبير حيث تخص أقاليم واسعة من الأرض كما هو الحال مع كثافات السكان وفقاً للقارات أو نقاط محدودة تصور الظروف المحلية من خلال درجة عالية من التفصيل. وبشكل واضح فسوف تظهر مستويات مختلفة من الفهم اعتمادا على مقياس scale البيانات التي تم ملاحظتها أو جمعها.
إن التمكن من قاعدة بيانات، إما متصلة بمنطقة بعينها كما هو الحال مع المقاطعات أو متصلة بنقطة بعينها كما هو الحال مع المنازل المفردة أو كلا الأمرين، يعين المرء على العمل التجريبي أو الاستقرائي وذلك بالتحول من الحقائق التفصيلية إلى تعميم معين. إن هذه الطرق قد تتكون من عملية رسم خرائطي بسيطة البيانات لاكتشاف الأنماط المساحية أو من التحليل الاحصائي وذلك لتقرير العلاقات الموجودة ضمن البيانات. هذا ويعد الاجراء النظري، أو الاستقرائي مُعترف به على مستوى واسع في الأدبيات الخاصة بالطرق العلمية، حيث الانطلاق من بيان عام إلى آخر ينطبق على حقائق محدده، ذات أعداد ضخمة. وبالنسبة لنظرية لها سمة الاستقراء، حتى لو كانت ذات فائدة تجريبية، فإنه ينبغي وضعها في حالة اتصال مع الحقائق الملائمة بحيث يساعد فحصها في التثبت من مقولاتها أو اضعاف الثقة فيها. وعمومًا فنظريات التوطن لا يتم تطويرها في أبراج عاجية منعزلة.
وحيث أن العملية التوطنية Locational Process هي عملية عالية التعقيد، فمنظرو التوطن إنما يعتمدون في وضعهم لنظرية أو لتمديد نظرية قائمة، على مخزون من التعميمات قد تم الوصول إليها وتمحصها من خلال قاعدة عريضة للحقائق. وبالرغم من أن أي مصفوفة تبرز ذلك قد تظهر الأسهم بها الاتجاهات التقليدية التي اتبعها تطور النظرية، إلا أن هذه الأسهم لا تظهر الطرق الملتوية وغير المباشرة، بما في ذلك الطرق المسدودة التي تتم مصادفتها عبر طريق البحث.
وعمومًا فإن هذه طريقة مفيدة للنظر إلى مكون واتجاه الجغرافيا الاقتصادية (آلية المصفوفة). هنا نجد أن الأسهم في المصفوفة تمثل الأماكن والتي قد تكون عبارة عن نقاط مثل (مراكز التسوق أو المزارع بمبانيها) أو المناطق (المقاطعات أو وحدات الإحصاء). أما الأماكن فقد يتم تصويرها على الشكل بدءًا من مكان مفرد إلى عدد لامتناه (أو ضخم) من الأماكن (ويتم الإشارة لذلك بحرف ع من كلمة عدد). أما الخصائص الاقتصادية للأماكن فقد يتم إظهارها في الشكل على شكل أعمدة في المصفوفة. وتتضمن هذه الخصائص الصناعة التحويلية، تجارة الجملة wholesaling، الزراعة، الخدمات والموصلات، وكل هذه الخصائص (الأنشطة) تُمثل في الشكل من خلال مجموعة من الأعمدة. وفي المقابل فعامود مفرد قد يمثل الدخل المتوسط للأسرة أو لوح من الخشب المحصود. وعليه فإن أي دراسة في الجغرافيا الاقتصادية يمكن النظر إليها كعملية ربط الأماكن بالخصائص الاقتصادية (الأنشطة الاقتصادية).
وإذا ما كان علينا فحص خاصية بعينها، ولتكن مبيعات التجزئة من عدد ضخم من الأماكن، مثل المناطق المبتروبولية metropolitan areas، فإننا سوف نفكر في النتيجة لذلك على أنها عبارة عن خريطة مفرده تصور حجم ضخم من أرقام المبيعات، وهنا فإننا نحصل على تحليل منتظم لواحدًا من ملامح الجغرافيا الاقتصادية. وقد يكون من الممكن أننا سنرغب في ربط ملمح مفرد، مبيعات تجزئة، مع آخر أو أكثر من الملامح الإضافية، ربما حجم السكان ومتوسط الدخل الاسري، وذلك لتحسين فهمنا لتوزيع مبيعات التجزئة ضمن المناطق المبتروبولية. وعندما يدرس الجغرافي الاقتصادي واحد من عدد محدود من الأعمدة في المصفوفة عبر عدد ضخم من الأماكن فإنه، أو هي، انما يستخدم الاتجاه المنتظم أو الموضوعي لإجراء التحليل المكاني. ولنفترض أن جغرافي اقتصادي مهتما في الجغرافيا الاقتصادية لمقاطعة مفرده في ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً، أو مجموعة صغيرة من المقاطعات هنالك، فبالإشارة إلى المصفوفة Matrix فإنه سوف يفحص واحدا أو عدد صغير من الأسهم لكنها تشتمل على عدد ضخم من الخصائص التي تميز الجغرافيا الاقتصادية التي تتلازم مع هذه الأسهم. وهنا نجد أن الاتجاه سيتبع الطريقة الإقليمية. إن الجغرافي الاقتصادي يستخدم تقليديا، كلا من الاتجاه المنتظم وذلك الإقليمي في المجال البحثي، فالاتجاه المنتظم إنما يوفر التعميم والاسس بينما يوفر الاتجاه الإقليمي المعلومات أو العلاقات القائمة ضمن الخصائص في أماكن بعينها.