الاتجاه الكلاسيكي الجديد

تعد التباينات في النمو الاقتصادي على المستوى الإقليمي مصدر للاهتمام العلمي الكلاسيكي نظرياً تجلى في مجال الاتجاه الكلاسيكي الجديد. فانطلاقاً من هذا المنظور نجد ان النمو الاقتصادي الإقليمي انما يقرر كل من الدخل الاقتصادي والرفاه الإقليميين. ومن ثم فإنه يتم تحديد التنمية الإقليمية والمحلية من خلال هذا الاتجاه على انها: السعي نحو تخفيض الاختلافات المكانية بين الأقاليم في الناتج الاقتصادي ومتوسط دخل الفرد وذلك على المدى الطويل. وتشرح آليات النظرية (الاتجاه) كيف ان أمثال هذه الاختلافات إنما يتم تخفيضها ومن ثم يتم الانطلاق قُدما نحو التقارب الإقليمي على أساس الوضع الاقتصادي الأمثل والتوازن على المدى الطويل. وهذا وتسعى النظرية أيضا لتفسير: أين لا يوجد تقارب بي الأقاليم وتستمر معه الاختلافات في التزايد مُسببة التباين الإقليمي في النمو، ولماذا؟

توجد عدة مقاييس للنمو الاقتصادي الإقليمي في هذه النظرية، فهنالك نمو المنتج (output growth) والذي يمثل توسع طاقة الإنتاج في إقليم بعينه. وهذا المقياس يستعرض:

أولاً مدى قدرة الإقليم على جذب رأس المال والعمالة كعناصر انتاج رئيسية. وثانيًا متوسط نمو المنتج للعامل الواحد وهو مقياس للإنتاجية يظهر كيف يتم استخدام الموارد بشكل ذو كفاءة ضمن الاقتصاد الإقليمي. ويرتبط هذا المقياس بشكل مباشر مع التنافسية النسبية لأقاليم بعينها مقارنة بأقاليم أخرى. كما يربط هذا المقياس النمو بسكان الإقليم ويوضح المستوى النسبي للنمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي في الإقليم.

هذا وتركز نظرية النمو الكلاسيكية الجديدة على عرض عوامل الإنتاج (أي ما هو مطروح منها في السوق) وتفترض القدرة التحركية التامة لهذه العوامل ما بين الأقاليم. وكما تفترض النظرية أيضا وجود معلومات تامة لدى المستثمرين بشأن عامل الأسعار النسبي بين الأقاليم كما تفترض وجود العقلانية الاقتصادية ووجود الخيارات ذات الكفاءة لدى المشترين ولدى العارضين في حالة الاستجابة لإشارات السوق. كما تعتمد النظرية على إعادة توظيف الموارد بشكل فوري مما يضمن عمد وجود موارد غير مستعملة حيث تقوم آليات السوق بشكل تلقائي بالتأكيد على إتمام استخدام الموارد بشكل كامل وذو كفاءة. في ظل افتراضات النظرية ونموذجها فإن التحركية التامة لرأس المال والعمالة انما تعني انها يتحركان نحو الأقاليم التي تقدم معدل العائد الأعلى نسبيا. على ان الشركات انما تتطلع، من جانبها، إلى الأقاليم الأكثر ربحية بينما يتطلع العمال الى الأماكن ذات الرواتب الأعلى. وهنا تعمل ما تُسمى بآلية التعديل عملها بسبب ان الأقاليم ذات نسب رأس المال – العمال الأعلى إنما تمتلك الرواتب الأعلى، وفي نفس الوقت ترتبط بها العوائد الأقل على الاستثمار. ومن ثم فإن كل من رأس المال والعمال انما يتحركون في اتجاهات متعارضة، فالأقاليم ذات الرواتب الأعلى تفقد رأس المال الذي يمكن اجتذابه، بينما تجذب العمال والعكس صحيح. وهنا نجد أن آلية التعديل تعمل على المدى الطويل لتخفيض التباينات الإقليمية في نسب رأس المال – العمال ونمو الإقليم. هذا بالإضافة إلى أن انتشار التقنية (innovation diffusion) عبر الأقاليم انما يسمح للأقاليم بأن تلحق بعضها البعض تقنياً فاقتصادياً وإلى حدوث قدر من التساوي الجغرافي في مستويات التطور.

ويمثل مفهوم الفائدة التنافسية competitive advantage عامل أخر في هذه النظرية في مجال مقاربة عملية التقارب بين الإقليمي. ففي ظل هذه النظرية فإن الدول والاقاليم تتخصص في تلك الأنشطة الاقتصادية التي تمتلك في مجالها مزايا تنافسية مقابل الأقاليم والدول الأخرى، وبشكل رئيس في مجال الصناعية التحويلية التي تستخدم وفرة عوامل الإنتاج (عمال – رأس مال – موارد طبيعية – معلومات). كما يتم النظر في النظرية في هذا الصدد إلى التجارة كعنصر إيجابي يتمكن من خلاله شركاء التجارة من الاستفادة المتبادلة. وفي ظل اطار ثابت أكثر منه ديناميكي فان التخصص والتجارة يسمحان بحدوث تخصص أكثر كفاءة للموارد وحدوث تقارب ما بين إقليمي.

على ان الدراسات التي طبقت نظرية النمو الكلاسيكية الجديدة انما تقول بان التقارب الإقليمي غالباً ما يكون في ظل هذه النظرية بطئ، ويمثل عملية ليست ذات استمرارية. كما توجد تباينات كبيرة في سرعة ومدى التقارب بين الأقاليم عبر فترات زمنية مختلفة في عدة دول. على انه يمكن القول بان النظرية والتفسيرات لتباينات النمو الإقليمي قد كانت ولا تزال مؤثرة في مجال سياسات التنمية الإقليمية والمحلية. وهنا يُلاحظ ان هذه السياسات، المنطلقة من هذه النظرية، انما تدعى ان التقارب الإقليمي regional convergence سوف يحدث بغض النظر عن أي سياسة تدخلية من قبل الدولة، وذلك عائد لآليات نموذج النمو حيث تتحرك الأقاليم، بموجبه، باتجاه نقطة التوازن. هذا وتظهر السياسة الإقليمية في الاتحاد الأوربي تأثير هذه النظرية في سياسات التنمية الإقليمية والمحلية به وبدوله.

انتقادات الاتجاه الكلاسيكي الجديد في مجال التنمية الإقليمية:

1- لقد ظهر ان الافتراضات الرئيسية في هذا الاتجاه ليست واقعية، فالعقلانية الاقتصادية ليست واضحة بين الافراد والشركات نظرا لوجود مجموعات معقدة من المصالح والأولويات تؤثر على السلوك الإنساني. هذا بالإضافة إلى تباين الأفراد من حيث خصائص التحركية الجغرافية. على ان عامل التحركية كنتيجة لذلك، ولغيره، يعد اقل مثالية اقل مما يفترض فيه. فالوصول إلى رأس المال وتوفره إنما يتسم بعدم العدالة الجغرافية، هذا فضلاً على أنه بينما يتسم رأس المال بالتحركية النسبية فإن كل من وضع اقتصاد العمالة في سوق الإسكان وما يُسمى بإطارات إعادة الإنتاج الاجتماعي عبر العائلة والأصدقاء وتعليم الأطفال تشكل رابط ثابت وذو معنى للأماكن وهو الأمر الذي يعمل لصالح التحركية الجغرافية.

2- لقد ضعف البعض من نموذج الاتجاه الكلاسيكي الجديد، في مجال تحليل وتعليل التنمية الإقليمية والمحلية، بسبب وجود عناصر خارجية للنمو والتقنية والعمالة. فالتقدم التقني مثلا يتسم بعدم التوازن الجغرافي بشكل كبير وكذلك انتشار التقنية عبر المساحة الجغرافية والزمان، ومن ثم فإن كل ذلك يظهر ان هنالك تأثيرات قوية لعامل تضاءل المسافة Distance decay.

3- وأخيرا فإن هنالك أدلة قد ظهرت تقترح بأن آلية التوافق الخاصة بالاتجاه الكلاسيكي الجديد قد فشلت في العمل على المدى البعيد أو عبر فترات زمنية بعينها.