النظرية السلوكية
ثانيا: النظرية السلوكية
لقد نبعت هذه النظرية الدارسة للشركات في مجال علم الاقتصاد أساسا، وبشكل رئيس من أعمال عدد من الباحثين، وهم سيمون 1955- 1959، بايومول (1962) سيرت و مارش (1963). ثم تتابعت بعد ذلك سهامات الباحثين في تطوير الدراسة السلوكية للتوطن الاقتصادي عامة. وفيما يلي نقاش لأهم دراسات الباحثين التي تتابعت في مجال النظرية المذكورة حتى أواخر القرن العشرين.
سيمون:
سعى هذا الباحث لاستبدال المفهوم القائل بأن الشركة إنما تسعى فقط نحو تعظيم الربحية، بمفهوم "أنه يمكن اعتبارها كآلية للبحث عن معلومات، وتعلمها وتقويمها". ذلك أن الشركات، وفقا لهذا الباحث، لا تتمتع في العالم الواقعي لا بمعلومات تامة ولا هي تتصرف بشكل مثالي وعقلاني مع المعلومات التي لديها. كما أن الشركات إنما تعمل على مراكمة (من التركيم) المعلومات عبر طرق مختلفة عبر الزمن، وفي ذات الوقت تتخذ قرارات للاستجابة لما تواجهه من أزمات تحدث ضمن فترات زمنية معينة. ومن ناحية ثالثة، تعمل الشركات على حل المشاكل التي تواجهها بشكل تعاقبي، وبطريقة تؤدي باستمرار للوصول لأحكام شخصية وغير موضوعية. وأخيرا فإن تلك الأحكام إنما تشكلها القرارات الشخصية وإدراكات صناع القرار، سواء كانوا يعملون بشكل فردي أو كعناصر تكون مجموعة واحدة.
نظر سيمون أيضا لصانع القرار في الشركة على أنه مشبع satisfier، وليس رجل اقتصادي. والمشبع يتسم بكونه ذو آفاق معلوماتية محدودة، وذو عقلانية محدودة وليست مطلقة. ومن ثم، فالمشبع، لا يستطيع تقويم كل المعلومات ذات الصلة بعمله، وفي حالة كل الخيارات البديلة المتاحة أمامه لتحقيق أهدافه. ومن ناحية أخرى في العقلانية المحدودة تُظهر أيضا محدودية صانع القرار في مجال التقويم المذكور.
- بايومول
لقد جادل بايومول Baumol (1962) أن الشركات تركز على المضاعفة القصوى لدخل المبيعات، وذلك كهدف قصير المدى لعملياتها لصنع القرار، فهذا يشير ضمنا إلى الحصة الأقصى للسوق للشركة الواحدة في ذلك المدى. فحصة السوق إنما توفر مؤشراً واضحا ومفهوما جدا لوضع الشركة في السوق، وتعكس لحد كبير درجتها كقوة احتكارية. وهذا الأمر مهم بسبب أن درجة القوة الاحتكارية للشركة إنما تعد مؤشرا لقدرتها على إعاقة الدخول المحتمل للسوق عبر التقنيات اللازمة، مثل تحديد عمليات التسعير، وعمليات التعويض المتقاطع، حيث تخفض الشركة بشكل مصطنع من أسعار سلع محددة أو خدمات محددة، وذلك من أجل إعاقة المنافسين المحتملين. إن القدرة على الأخذ بمقاييس معينة، مثل مقاييس التسعير الضارة، لهي مؤشر قوي أيضاً لقدرة الشركة على تحديد موضعها، ومن ثم فإنه يتم إدراكها من قبل العديد من الملاحظين على أنها المؤشر الأفضل لأداء الشركة على المدى الطويل.
- سيرت ومارش
لقد ركز كل من سيرت Cyert ومارش March (1963) في اتجاههما الانتقادي المُسمى "الأهداف المتعارضة" على عمليات صنع القرار المتوارثة في المنظمات الكبيرة. وهنا نجد أن الخصائص الرئيسة لعملية صنع القرار لهذه النوعية من المنظمات إنما تتمثل في فصل الملكية عن هذه العملية، مما يشي بأن المجموعات المختلفة القائمة ضمن المنظمة الواحدة قد تكون ذات أهداف مختلفة. وإذا ما كانت الحالة هكذا، فإنه من المحتمل أن أهداف العمل الاقتصادي، التي يتم السعي نحو إنجازها، سوف تكون ببساطة مختلفة جدا عن هدف مضاعفة الربح للحد الأقصى. وهذه الحجة لهي مُؤسسة على ملاحظة أن حاملي الأسهم المختلفون، ضمن الشركات المتعددة الجنسيات الحديثة، ومن ثم الشركات متعددة المصانع، متعددة الأقسام ومتعددة المنتجات، لهم ذو حوافز مختلفة. وعليه فقد تكون هذه الشركات مدفوعة لأن تسعى لتحقيق أهداف مختلفة. إن افتقاد وجود انحيازات لعديد من هذه الأهداف المؤثرة تجاه قرارات الشركات، والتي قد تم، ويتم، تأسيسها على مبدأ المضاعفة القصوى للربح لهو امر مؤثر في عملية صناعة القرار. فعلى سبيل المثال، فإن حاملي الأسهم هم فقط الذين يمتلكون الرغبة في تلك المضاعفة، بينما قد يتم تقويم أداء المدراء أساسا في سياقات حصة الشركة من السوق. كما قد يتم تُقدير أداء مدراء المبيعات في سياقات نمو المبيعات، بينما قد يُقدر أداء مدراء الإنتاج أساسا من خلال كفاءة إنجاز عملية الجرد، أما مدراء الموارد البشرية فقد يتم تقويمهم على أساس عدد الأيام المفقودة عبر النزاعات الصناعية. وبناء على ذلك، فبينما يرغب حاملو الأسهم في الحصول على الأرباح القصوى، نجد أن الأداء المهني لكل هؤلاء صناع القرار الرئيسون المختلفون، ضمن المنظمة المعينة، إنما يتم تقويمه تحت ظل معيار مختلف. وتحت هذه الظروف، فإن ناقدو الأهداف المتعارضة إنما يقترحون أن الشركة سوف تهدف لأن تصنع القرارات من أجل أن "تشبع"، بدلا من أن تحقق "الربح الأقصى". بكلمات أخرى، فإن الشركات سوف تحصل على المستوى المشبع من الأداء عبر مدى من المقاييس. وبشكل خاص، فإن الشركة تهدف مبدئيا لتحقيق مستوى من الربح الكافي لتجنب حصول تداخل ما بين أنشطة المدراء، وتجنب تهديد تولي غيرهم المسؤولية. وما أن يتم الوصول لهذا الهدف، فإنه يمكن إشباع الأهداف الأخرى المختلفة للشركة.
برد 1967 (المصفوفة السلوكية)
قام هذا الباحث باقتراح وسيلة لربط كمية ونوعية المعلومات فيما يتصل بالقرارات التوطنية (الصناعية وغيرها)، عبر ما عُرف بالمصفوفة السلوكية Behavioral matrix. وهذه المصفوفة تتكون من شكل مثلث عليه القدرة على استخدام المعلومات (القدرة الإدارية). كما تم تمثيل عملية اتخاذ القرارات على المحور الآخر (انظر الشكل 2-13). وهنا يتراوح مستوى المعلومات من معلومات تامة (يُفترض وجودها لدى الرجل الاقتصادي) إلى عدم وجود معلومات كلية. كما يتراوح مستوى القدرة أيضا من الحل الأمثل في طرف من المصفوفة إلى الحل العشوائي في الطرف الآخر، ووفقا لكيفية عمل المصفوفة، فنجد أن القرارات المُشار إليها في الربع الأسفل في يمين المصفوفة هي قرارات يتم اتخاذها في عقدة اتصالات حضرية (الموقع حضري). أما المربع الأعلى في يمين المصفوفة فتوجد القرارات التي يتم اتخاذها بناء على كمية قليلة من المعلومات ذات النوعية الفقيرة، وبواسطة صانعي قرار ذوي قدرات منخفضة.
ديكن (1971):
يمكن تلخيص إسهامات هذا الباحث في مجال النظرية السلوكية في النقاط التالية:
1- تتأثر نظرة إداريي أي شركة للبيئة التي تعمل وتوجد فيها بنوعية بيئة كل منهم، وبيئة الشركة يطلق عليها مصطلح البيئة الموضوعية Objective Environment. أما بيئة الإداري فُيطلق عليها مصطلح البيئة السلوكية Behavioral Environment. وهذه البيئة الأخيرة تمثل تصور الإداري للبيئة الموضوعية بعناصرها، وقد يكون هذا التصور قريبا أو بعيدا عن الواقع الفعلي للبيئة الموضوعية.
2- تكون إدراكات العاملين، وخاصة كبار الإداريين، ما يُسمى بالإدراك المؤسسي للشركة التي يعملون بها. وهذا الإدراك الأخير يمثل معرفة وتصور الشركة لأوضاع وعناصر البيئة المجاورة، كما أن هذا الإدراك يعكس طبيعة الشركة وأنشطتها ومكانتها في النظام الاقتصادي المكاني (أي ذلك السائد بعلاقاته المختلفة في رقعة جغرافية معينة).
3- لا يتم استقبال المعلومات، التي تصل للشركة كما هي، بل الذي يصل نوع معين وقدر معين منها فقط. هذا ويتمثل أسلوب حصول العامل في الشركة، وأي فرد، على المعلومات في ثلاثة أنواع: (الرؤية البصرية - الاتصالات الاجتماعية - المصادر العامة). وهذه المصادر تحدد حجم ونوع المعلومات الواصلة لأي فرد، بما في ذلك أولئك العاملين في الإدارات العليا للشركات الصناعية، والذين يتخذون القرارات الإدارية، (بما فيها التوطنية) بناء على المعلومات الواردة إليهم.
4- تتلخص مراحل عمليات صنع القرار في الشركة الصناعية في: حافز صنع القرار- البحث عن حل مرضي- تقويم النتائج المترتبة على الطرق البديلة التي يمكن استخدامها للوصول للهدف. وبالنسبة للقرارات التوطنية، بخاصة، نجد أنه:
أ) إن كان الواحد منها متصل ببدء نشاط اقتصادي جديد، والبحث بالتالي عن موقع له فإن هذا القرار متصل بكل من المتطلبات التوطنية الداخلية للشركة والخصائص الخارجية للموقع المطلوب.
ب) مع تزايد التغيرات بين الأمرين السابقين، يحدث عدم توازن بين الشركة وبيئتها.
وبناء على ما سبق فإن هنالك ثلاثة حلول لهذه المشكلة (التوطنية):
- التلاؤم مع الموقع الحالي: وهذا هو الحل الأكثر شيوعا بين الحلول المذكورة، بسبب عنصر عدم التأكد (الشك) uncertainty الذي سيلي فيما بعد مناقشته.
- استبقاء الموقع الحالي وتأسيس فرع للشركة في موقع جديد. وهذا الحل شائع بين الشركات التي تريد زيادة مساحتها السوقية.
- إعادة التوطين relocation، وهو الحل الذي يتم اللجوء إليه عندما تصبح مشاكل الموقع الحالي غير محتملة، وكذلك عندما تصبح مستويات الوفورات الاقتصادية الممكن تحقيقها أكثر مما يمكن تحقيقه في حال أي من الحلين السابقين.
• ميخائيل فيبر 1972 (عنصر الشك او عدم التأكد).
قام هذا الباحث في عام 1972 بإصدار بحث بعنوان "أثر الشك على التوطن". وقد تضمنت هذه الدراسة النظر إلى الشك كنوع من التكلفة التي تتشارك فيها الشركات بدرجات مختلفة. كما يؤثر الشك على التوطن الصناعي من خلال تكاليف المسافة، الوفورات الخارجية ووفورات الحجم. وكلما زاد الشك كلما زاد معه التخفيض في حجم المصنع. فالمرء لا يكون راغبا في استثمار كميات ضخمة من رأس المال في عملية يعتري احتمالية حصيلتها المستقبلية الشك. كما أنه لا يقود المستثمر نحو الاستثمار الضخم إلا "الرهان الأكيد" أما ما عدا ذلك فقد يتم اختيار المشروع ذو المستوى الصغير. فمثل هذا المشروع لن ينتج عنه خسارة ضخمة في حالة عدم النجاح، ومن ثم فعنصر الشك، والذي يتفاوت مستواه من صناعة لأخرى، يضع حدودا على حجم المصنع مما يمنع المصانع عموما من العمل بكامل أحجامها وكفاءاتها التقنية. ويتفاوت الشك أيضا عبر النظام الاقتصادي المكاني، حيث يميل للزيادة كلما كان البعد عن السوق كبيرًا. كما ترتفع التقلبات في السعر مع زيادة البعد عن السوق، وينتج عن ذلك قرارات إنتاجية أكثر محافظة في طبيعتها وعوائد أقل. هذا وتقود المسافة المتزايدة بعيدا عن مصادر مواد الصناعة وعن السوق إلى زيادة المخزون من لوازم الإنتاج كنتيجة لتأثير عنصر الشك. وأخيرا، فإن الشك إنما يجعل حصول الوفورات الخارجية أمر أكثر أهمية مما هو عليه الحال وذلك لو كان النظام الاقتصادي يسوده وجود المعلومات التامة، كما تفترض النظرية الكلاسيكية. كما يزداد عنصر الشك لدى الشركات الجديدة مقارنة بتلك القديمة، وبالتالي فإن تلك الأولى ينبغي عليها البحث عن موقع في أو قرب المدن الكبرى، وذلك للحصول على الخدمات الخارجية الضرورية لها.
• ابلر (1971)، جولد ووايت (1974).
وصل هؤلاء الباحثون، وغيرهم، في دراساتهم السلوكية إلى أن القرارات الإدارية لأي شركة إنما تعكس الإدراكات الفردية لصانعي القرار فيها، أكثر مما تعكس الواقع الموضوعي. كما أن هذه الإدراكات تتضمن معلومات ذات بعد مكاني أو ما يُطلق عليها الخريطة الذهنية Mental Map. وهذه الخرائط تؤثر بدورها على إدراكات صناع القرار، حيث تبرز بقوة تأثيرات أماكن معيشتهم وعملهم واستثماراتهم. ومن ثم فالخرائط الذهنية لأولئك إنما تؤكد على مواقع معينة، خاصة المدن الكبرى. وعليه، تقل تفضيلات أولئك الإداريين - صناع القرار - للمواقع الموجودة في أطراف الدولة التي يوجدون بها. هذا وينبغي ملاحظة أن ديكن قد أشار لتلك الخرائط وناقشها.
وقد استمرت الدراسات السلوكية بعد ذلك حتى وقت قريب، وفيما يلي سردًا لأهم الجوانب المطروقة في هذا المجال (حتى نهاية تسعينات القرن العشرين):
أ- عملية صنع القرار Decision making process
تتكون هذه العملية من عمليات ثانوية متداخلة للبحث والتقويم على مستويات مختلفة. وتجري هذه العمليات في ظل الرغبة في تحقيق أهداف مختلفة. كما يتم في هذه العملية الأخذ في الاعتبار عددا من الأهداف الخاصة لأمور معينة، مثل: التوطن، ومستوى العمل والتقنية. ومن ثم، فإن دراسة عملية صنع القرار من خلال منظور: الحافز – البحث – التقويم (كما نُظر سابقا في الدراسات السلوكية في السبعينات الميلادية، كما هو الحال مع دراسة ديكن) وهو أمر يعد تبسيطا للأمور.
ويُطرح الآن دراسة العملية من خلال عدد من المحاور:
1- حوافز اتخاذ القرار.
2- عمليات صنع الخيار التوطني.
3- التقويم التوطني وطرقه.
4- القرارات الاستثمارية وتقويم التوطنات السابقة.
ب- التعلم وعملية صنع القرار:
تقول بعض الدراسات أن هنالك أهمية للنظر لعملية التعلم وللخبرة الماضية بالنسبة لصناع القرار، وذلك لفهم وضع الخيارات التوطنية المتاحة أمامهم. وهنالك أدلة على أنه كلما كان صناع القرار أكثر خبرة، ولديهم معلومات جيدة، فيمكنهم التوصل لتحديد خيارات توطنية أكثر حيوية اقتصادياً. وفي المقابل، يكون صناع القرار أقل تعرضا للوقوع في الأخطاء. ومن الدراسات في هذا المجال الدراسات العائدة إلى فترة ما بين عامي 1971 و1987، التي قارنت ما بين خيارات شركتين كبيرتين في مجال تحديد مواقع المصانع في مجال صناعة منتجات قصب السكر في بريطانيا في عشرينيات القرن العشرين. وقد أظهرت الدراسة أن صانع القرار الأفضل معلوماتيا والأكثر خبرة، قد نجح في وضع مصنعه ضمن هوامش مكانية مربحة، عكس الحال مع الشركة الأخرى والتي فشلت في استثماراتها.
ج- التفضيلات التوطنية للشركات المتعددة الجنسيات.
فهذه الشركات تسعى للاستثمار في مناطق مختلفة من العالم، وأمامها عديد من القرارات التوطنية التي ينبغي اتخاذها. وهذا ما يتضح من جوانب النظرية المؤسسية.