اتجاهات التغير البنيوي

نظريات: المرحلة – الدائرة – الموجه الطويلة – التحول

على النقيض من كل من الاتجاهين السابقين فيما يتصف بالتقارب والتباعد الإقليميين للنمو فإن نظريات التغير البنيوي والزمني انما تركز على ان الاختلافات الإقليمية والمحلية على أساس انها تعد بمثابة عمليات تاريخية وتطورية تجسد فترات من التغير البنيوي أو المنتظم. وهنا نجد انه قد تم استخدام فكرة المجاز أو الاستعارة بمسميات المراحل والدوائر والموجات لتطوير اطار مفاهيمي وتنظيري للسلوك الجغرافي غير العادل لكل من التنمية المحلية والإقليمية. كما انه بخلاف تأكيد الاتجاهين السابقين على الشأن الاقتصادي فان الاتجاه البنيوي والزمني قد توجهه بنظرة أكثر اتساع في تناول موضوع التنمية المحلية والإقليمية اذ اشتمل على أفكار تخص الإنتاج، التقنية، الاستهلاك، المؤسسات، الحكومة، الحوكمة.

أ- نظرية المراحل stages theory

لقد ركزت هذه النظرية للنمو الاقتصادي على المستويات الوطنية والإقليمية والتغير القطاعي. وهنا نجد ان الأقاليم والأمم يمكن ان تفسر أوضاعها عبر الزمن على انها تتحرك بشكل تقدمي لمراحل أكثر تقدم من النمو والتطور الاقتصاديين، فمن الزراعة الصناعية التحويلية إلى قطاع الخدمات للقطاع الرابع أو اشكال التطور ذو الأساس المعلوماتي knowledge – based وهنا يلاحظ وجود زيادة تدريجية واضحة، فأنماط النمو تصبح محتجزة في أماكن معينة على انها تؤسس لمواجهة التغير عبر ظهور روابط تركزية كثيفة وبنيات أساسية متخصصة وطلب تركزي أيضا وأصوات عمل قائمة وامكانيات للابتكارات ومؤسسات ديموقراطية. وهنا قد تتم حدوث، مصادفة، ((لا وفورات)) نتيجة الازدحام.

ان فترات التحول السريعة انما تحدث عندما تولد ((كتلة حرجة)) من الاستثمار والأنشطة وحدوث انطلاق للتنمية لتؤسس لفترات مستدامة من النمو والتطور. إن نموذج المراحل هذا كان بمثابة علامة مميزة لتيار ((التطورية developmentalism)) والديموقراطية الليبرالية / السوق والذي تم تطويرها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة ما بين الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. وبالتأكيد فقد يجادل البعض ان ((التطوير)) انما يستدعي تميز بنيوي مثل القفزات والتحولات للدول من وضع قائم لوضع آخر أكثر تطورا. هذا يحل محل كل من محاكاة النظرية الكلاسيكية الجديدة للفائدة التنافسية، عبر الوقت، والتخصص والتجارة لتحل محل أسلوب الاكتفاء الذاتي self-sufficiency ، ((والفوائد المتناقصة)) والتغيرات في التقسيم الداخلي للعمل عبر المراحل. إن ((التطور)) انما يتساوى مع النمو والتصنيع وتحدث التحولات عبر كل مرحلة أكثر تقدم من سابقتها في النشاط الاقتصادي. كما يحدث التباعد الإقليمي للنمو مبكراً ويحل محله تقارب إقليمي من النمو في المراحل اللاحقة من نموذج التطوير.

وعلى عكس الحاجة، كما يرى البعض، لتبني نظريات من واقع خبرات الشمالي العولمي في سياقات مختلفة، فإن نموذج مراحل التحديث انما يتطور ليشرح النمو السريع لدول اليابان والنمور الاسيوية الأخرى (بقية الدول حديثة التصنيع) منذ خمسينات القرن العشرين واللاحق بها من قبل الدول النامية الأخرى. وهذا نموذج يدعى (نموذج الاوزة الطائرة) انما يتركز على سلسلة من الثورات الصناعية:

التعاقب الأول: يتضمن الأمر، عبر نموذج دائرة المنج، استيراد السلع الصناعية الحديثة والإنتاج المحلي يوجه للتصدير ثم إعادة الاستيراد.

التعاقب الثاني: تأتي مرحلة تتضمن تحرك تعاقبي من القيمة المضافة value added الأدنى إلى تلك الأعلى وإلى أنشطة اقتصادية أكثر تركيباً ومتسمة بسمة الثقافة والذوق الرفيعين من المنسوجات إلى الملابس إلى المنتجات البتروكيميائية، الحديد والصلب، السيارات إلى الالكترونيات.

التعاقب الثالث: تتضمن المرحلة حدوث تغير على مستوى دولي أكثر من حدوثه على مستوى وطني والمناطق داخلها، وذلك عبر إعادة توطين Relocation للأنشطة الاقتصادية من بلاد أكثر تقدم لبلاد تمر في المراحل الأولى من العملية التنموية وتكون أسفل التسلسلية الهرمية الاقتصادية.

ومع تأكيد نظرية المراحل على ظروف ومتطلبات التغير البنيوي فقد كانت ذات تأثير هام على سياسة التنمية المحلية والإقليمية.

فأولا هي تؤسس لأهمية فهم اين يتواجد الاقتصاد المحلي والإقليمي ضمن السياق الأوسع للمراحل. ثانياً تؤكد النظرية على كيف انه أمر ذو جدوى أن يتم التعرف على الطرق التي يحدث عبرها الانتقال بين المراحل، وكيف يمكن ان تتدعم ويتم العمل على تسارعها عبر خلق ((كتلة حرجة)) وظروف ((الإقلاع)) خاصة في سياق مصطلحات المرحلة التطورية والتطور الصناعي في اتجاه قيمة مضافة أعلى وانتاجية أعلى. إن اتباع هذا الطريق انما يعني أيضا التعامل مع الطبيعة الجغرافية التركزية الغالبة للأنشطة الاقتصادية والتي يكون هنالك حاجة لها لتمكن حدوث " الكتلة الحرجة " و"مرحلة الانطلاق" والتعامل مع كل من فوائد وتكاليف "التجمع" وعلاقات بين مراكز النمو والهوامش عبر الوقت.

وأخيراً فإن نظرية المراحل قد اكتسبت أهمية في محاولتها لإنهاء الأوضاع الجامدة القائمة ضمن البني الاقتصادية والتي، على سبيل المثال، قد تشكلت عبر التخصصات الاقتصادية التاريخية وعلاقات التجارة الدولية والتعامل مع التحديات تبني أنماط جديدة من النمو بما في ذلك التعامل مع ما كان يمثل عنصر مركزي في المراحل الماضية وهي الأصول الاقتصادية، مهارات المال، الاقتصادات المحلية والإقليمية في اطوارها السابقة.

انتقادات نظرية المراحل:

1- ان هذه النماذج قد تم تأسيسها على منطق خطي ومُبرمج، وحيث كان يتم التنبؤ بان الأقاليم والمحليات انما تتبع نفس الطريق التنموي خلال نفس المراحل. وهذا المفهوم انما يترك مساحة صغيرة لوجود طرق بديلة لتنمية الأقاليم والمحليات. كما ان هذا المنطق يفترض وجود سياق جغرافي واحد في عملية تشكل اتجاهات التنمية.

2- ان كل من شرح كيف ولماذا كانت الأمم والاقاليم والمحليات قد تحركت بين المراحل، وكيف ان المدى الخاص بالتحرك كان مدى محدود وطبيعة أي ظروف سابقة، وأمور مثل الكتلة الحرجة وعوامل الانطلاق وتبني عمليات التطوير، كلأ قد افتقد الدقة والقدرة على شرح الخبرات المختلفة للمحليات والاقاليم والأهم على المستوى الدولي: أي ان ما تضمنته النظرية من آليات وشروحات تفسر بها عملية التطوير قد افتقدت الدقة والقدرة على شرح الخبرات المذكورة.

3- تأتي المرحلة التطويرية المستندة إلى المعلومات في نهاية التعاقب وتثير سؤال ألا وهو ماذا سوف يأتي لاحقاً.

ب – نظرية الدائرة cycle theory

تركز هذه النظرية على التطور الزمني للبنيات الصناعية المحلية والإقليمية وصلتها بالتنمية المحلية والإقليمية. وهنا يتم ربط التباينات الجغرافية في عنصر التكاليف مع المراحل المختلفة للمنتج ودوائر حياة الصناعة عبر نموذج دائرة المنتج. وبناء على التركيز المبدئي على المستوى الجزئي للسلوك التوطني للشركات المتعددة الجنسيات الامريكية، اتصالا بدائرة المنتج، نجد ان الباحثين الذين يستخدمون مفهوم هذه الدائرة سعوا في تحليلهم لربط التطور الصناعي ذو التوجه التصديري مع البنيات الصناعية الإقليمية. ومبدئيا فان شركات الابتكارات انما تقدم منتجات جديدة تعمل على استبقاء القرب التوطني Locational proximity مع وظيفة "مزود عناصر الإنتاج" suppliers proximity ووظيفة البحث والتطوير R/D . كما ان المرونة منخفضة لدرجة حساسية الطلب للتغيرات الأسعار الخاصة بالمنتجات انما تقود للاختلافات المبدئية للتكاليف الإقليمية بشكل نسبي أقل أهمية.

بينما نجد ان الأسواق الحضرية الكبيرة أسواق ذات سمة ثقافية مرتفعة وعالية وتناسب الاذواق المرتفعة، وهي ذات احجام كبيرة وذلك لوفر مجال السلع التي لا تكون ذات مرونة عالية، وهي السلع التي تُسمى بالسلع غير مرنة. ومع النضج والمعيارية تصبح وفورات الحجم اكثر أهمية نسبياً من المرونة. وأخيراً فان استخدام اللامركزية Decentralisation لاستغلال العمالة الارخص نسبيا في الدول المتخلفة الأقل نمواً إنما يحصل مع اتجاه التصدير المحتمل نحو الأقاليم المركز، والتي تكون قد تكنت من تطوير أسواق جديدة بحكم المرحلة الواصلة إليها في الدائرة مما يمكنها من إعادة بدء عملية التطوير.

إن نظرية دائرة المنتج لهي ذات تأثير محدود على سياسة التنمية المحلية والإقليمية باستثناء إلقاء الضوء على الأهمية المحتملة لدوائر التنمية الصناعية والحاجة من قبل المحليات والاقاليم لجذب أنواع مختلفة من الوظائف الصناعية واستبقاءها.

انتقادات نظرية الدائرة:

1- يكمن النقد لهذه النظرية على التركيز الضيق لنموذجها على المنتجات المفردة بدل التركيز الصناعات والأسواق وصلتها بفترات زمنية تاريخية بذاتها.

2- تأكيد النظرية فقط على العلاقات السببية والارتباطات.

3- تأكيد النظرية فقط على الدور الراجع للتقنية.

4- المفاهيمية المحدودة للنظرية المتصلة بالابتكار.

5- من نقاط عن المفصلة النظرية ان الدول ذات الديناميكية التقنية انما تبدأ بمرحلة تنافسية، اذ تعد الافاق الخارجية للشركات والصناعة امر مهم لها ومن ثم فانه يتم التقدم صوب مرحلة "احتكار القلة" oligopoly والتي تهيمن عبرها شركات كبيرة على السوق وذلك مع وصول المنتج لمرحلة النضج (تصنيع سلع معيارية) وانتشار التقنية في أعمال أخرى. ان المبتكرون والاحتكارات انما تنقل أمور متصلة بوقت يسفر عن وجود مزود فردي لسلع وخدمات جديدة في المرحلة المبدئية للأرباح العالية. وهذا يعد موقع الشركة أو الابتكار غالبا نتيجة ظرف تاريخي من ذلك مثلا ان يكون الموقع هو النقطة المبدئية التي بدأ مؤسس العمل بها. ومن ناحية أخرى فان الموقع المشترك لأكثر من شركة انما يستفيد من البنيات الخارجية لعمليات الانسياب المكاني للتقنيات ومصادر العمالة. هذا وتعمل المنافسة على تآكل الأرباح الضخمة والرجوع إلى الأرباح الاعتيادية. وهذا أمر يمكن حدوذه في موضع الابتكار الصناعي الأول أو الأقاليم التي تعد مفضلة للصناعة. وأخيراً فإن نمو حجم الشركة وتركز سوق المستهلك واتجاهه إنما يؤكد على التركز الجغرافي للشركات الاحتكارية والتي تستحوذ على السوق والقوى السياسية.

هذا ويترافق مع ذلك ظهور الاشكال التنظيمية الاحتكارية، التي توجه الاتجاه نحو البحث عن أرباح إضافية بما في ذلك من اتباع سياسة اللامركزية بحثاً عن تكاليف اقل نسبيا للعمالة أو الحصول على عمالة أكثر مرونة (العمالة التي تستطيع أداء أكثر من وظيفة) والحصول على عمالة غير نقابية. ويترتب على تراجع بعض المنتجات أمام المنتجات الجديدة والمستوردات، المترابطة مع هجر مرافق توطنية بعينها، تراجع في الأرباح. وبالرغم من ان نظرية دائرة الربح قد أوضحت المراحل الممكنة للتدخل الحكومي في التنمية الإقليمية فإن تأثير هذه النظرية على سياسات المحلية والاقليمية قد أصبح محدود. كما أنه بالرغم من المرونة النسبية للنظرية للتوائم مع العمليات المعقدة للتغير الصناعي، مقارنة بنظرية دائرة المنتج، فقد ارتكز النقد الموجه لها على أفكار مماثلة، كما وجه للنظرية الأولى، حيث تضمن الانتقاد اعتمادية النظرية على مجموعة من العلاقات العرضية (غير الأساسية)، اتسامها بسمة التجرد والتعميم فيما يتصل بالعمليات العرضية من ظروف زمنية وأخرى تجريدية مكانية.

ج- نظرية الموجه الطويلة للتنمية:

يعود منشأ هذه النظرية إلى أواخر القرن 19 الميلادي وهي نظرية قد تم تأسيسها على حدوث تغيرات تقنية ذات مستوى كبير، وقد أُعيد احياء هذه النظرية خلال أواخر حقبتي الستينات والسبعينات من القرن العشرين بإتباع ما حصل من تغيرات بنيوية في اعلام الرأسمالي. هذا وتحتفظ نظرية الموجه الطويلة بدرجة تركيز على التغيير الداخلي ضمن الأقاليم كمفسر لمستوى وأوضاع التنمية المحلية والإقليمية، وبالبناء على وصف "كواندراتف" لموجات ذات طول يبلغ 50 عام فيما يتصل بدوائر سعر السلعة. وهنالك اسهام اخر لباحث يدعى "سكمبتير" للموجات الطويلة حيث وضع أسس نظرية لنظرية الموجة الطويلة. فكل موجه طويلة انما يؤسسها نموذج تقني اقتصادي أكثر تقدماً، ويظهر ذلك في المراحل التالية:

1- مرحلة مكائن البخار وإنتاج القطن.

2- السكك الحديدية وصناعة الصلب (1850م).

3- الهندسة الكهربائية والكيمياء (1900م).

4- صناعة البتروكيماويات والسيارات (1950م).

5- تقنية المعلومات (1990م).

فكل من هذه المراحل انما يتصل بجغرافية متميزة للتنمية المحلية والإقليمية. وأخيراً فقد تم توسيع المجال الضيق التركيز للنظرية الموجه الطويلة لتشتمل على السياقات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية لعملية التنمية الإقليمية والمحلية.

إن نظرية الموجه الطويل انما تعد نوع من المحاكاة لنظرية دائرة الربح السابق ذكرها والتي تقول ان وجود أسواق تنافسية انما تعطي الطريق للعملية الاحتكارية وذلك عندما تتلاشى عوائد الابتكارات في النهاية وذلك يحدث مع وصول نموذج تقني اقتصادي جديد. ومن ناحية أخرى فقد تم اكتشاف ارتباط محتمل Endogبين نظريات الموجه الطويلة ونماذج النمو الداخلي